قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول ، وأن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك . فيكون مبتدأ ، والله مبتدأ ثان . و { أحد } خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . ويجوز أن يكون { الله } بدلاً من { هو } ، والخبر { أحد } . ويجوز أن يكون الله خبراً أوّلاً ، و { أحد } خبراً ثانياً ، ويجوز أن يكون { أحد } خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو أحد . ويجوز أن يكون { هو } ضمير شأن؛ لأنه موضع تعظيم ، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه ، والأوّل أولى . قال الزجاج : هو كناية عن ذكر الله ، والمعنى : إن سألتم تبيين نسبته { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } . قيل : وهمزة { أحد } بدل من الواو ، وأصله واحد . وقال أبو البقاء : همزة { أحد } أصل بنفسها غير مقلوبة ، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد . ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري : أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى ، لا يقال رجل أحد ، ولا درهم أحد؛ كما يقال رجل واحد ، ودرهم واحد ، قيل : والواحد يدخل في الأحد ، والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد . وفرّق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد وأحد لا يدخل فيه . وردّ عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون ، ونحوه ، فقد دخله العدد ، وهذا كما ترى ، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل . قرأ الجمهور : { قل هو الله أحد } بإثبات { قل } . وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ : ( الله أحد ) بدون { قل } . وقرأ الأعمش : ( قل هو الله الواحد ) وقرأ الجمهور : بتنوين { أحد } ، وهو : الأصل . وقرأ زيد بن عليّ ، وأبان بن عثمان ، وابن أبي إسحاق ، والحسن ، وأبو السماك ، وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة ، كما في قول الشاعر :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وقيل : إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف ، فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين . ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأوّل منهما بالكسر { الله الصمد } الإسم الشريف مبتدأ ، و { الصمد } خبره . والصمد : هو الذي يصمد إليه في الحاجات ، أي : يقصد لكونه قادراً على قضائها ، فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض؛ لأنه مصمود إليه ، أي : مقصود إليه ، قال الزجاج : الصمد السند الذي انتهى إليه السؤدد . فلا سيد فوقه ، قال الشاعر :
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقيل : معنى الصمد : الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول . وقيل : معنى الصمد ما ذكر بعده من أنه الذي لم يلد ولم يولد .
--------------------------------------------------------------------------------
وقيل : هو المستغني عن كل أحد ، والمحتاج إليه كل أحد . وقيل : هو المقصود في الرغائب ، والمستعان به في المصائب ، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأوّل . وقيل : هو الذي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد . وقيل : هو الكامل الذي لا عيب فيه . وقال الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعبد الله بن بريدة ، وعطاء ، وعطية العوفي ، والسديّ ، الصمد هو المصمت الذي لا جوف ، ومنه قول الشاعر :
شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
وهذا لا ينافي القول الأوّل لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد ، ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج ، ولهذا أطبق على القول الأوّل أهل اللغة وجمهور أهل التفسير ، ومنه قول الشاعر :
علوته بحسام ثم قلت له ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقال الزبرقان بن بدر :
سيروا جميعاً بنصف الليل واعتمدوا ... ولا رهينة إلاّ سيد صمد
وتكرير الاسم الجليل؛ للإشعار بأن من لم يتصف بذلك ، فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية ، وحذف العاطف من هذه الجملة؛ لأنها كالنتيجة للجملة الأولى . وقيل : إن الصمد صفة للاسم الشريف ، والخبر هو ما بعده . والأوّل أولى؛ لأن السياق يقتضي استقلال كل جملة . { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } أي : لم يصدر عنه ولد ، ولم يصدر هو عن شيء ، لأنه لا يجانسه شيء ، ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً . قال قتادة : إن مشركي العرب قالوا : الملائكة بنات الله . وقالت اليهود : عزير ابن الله . وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، فأكذبهم الله فقال : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } . قال الرازي : قدّم ذكر نفي الولد مع أن الولد مقدّم للاهتمام ، لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين : إن الملائكة بنات الله ، واليهود : عزير ابن الله ، والنصارى : المسيح ابن الله ، ولم يدّع أحد أن له والداً ، فلهذا السبب بدأ بالأهمّ ، فقال : { لَمْ يَلِدْ } ثم أشار إلى الحجة فقال : { وَلَمْ يُولَدْ } ، كأنه قيل : الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره ، وإنما عبّر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي ، ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل؛ لأنه ورد جواباً عن قولهم : ولد الله ، كما حكى الله عنهم بقوله : { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله } [ الصافات : 151 ، 152 ] فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم ، وهم : إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى ، وردت الآية لدفع قولهم هذا .
{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها؛ لأنه سبحانه إذا كان متصفاً بالصفات المتقدمة كان متصفاً بكونه لم يكافئه أحد ، ولا يماثله ولا يشاركه في شيء ، وأخر اسم كان لرعاية الفواصل ، وقوله : { له } متعلق بقوله : { كفواً } قدم عليه لرعاية الاهتمام؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته .
--------------------------------------------------------------------------------
وقيل : إنه في محل نصب على الحال ، والأوّل أولى . وقد ردّ المبرد على سيبويه بهذه الآية؛ لأن سيبويه قال : إنه إذا تقدّم الظرف كان هو الخبر ، وههنا لم يجعل خبراً مع تقدّمه ، وقد ردّ على المبرد بوجهين : أحدهما أن سيبويه لم يجعل ذلك حتماً بل جوّزه . والثاني أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر ، بل يجوز أن يكون خبراً ويكون كفواً منتصباً على الحال وحكى في الكشاف عن سيبويه على أن الكلام العربيّ الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقرّ ، واقتصر في هذه الحكاية على نقل أوّل كلام سيبويه ، ولم ينظر إلى أخره ، فإنه قال في آخر كلامه : والتقديم والتأخير والإلغاء ، والاستقرار عربيّ جيد كثير . انتهى . قرأ الجمهور : { كفواً } بضم الكاف والفاء ، وتسهيل الهمزة ، وقرأ الأعرج ، وسيبويه ، ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء ، وروي ذلك عن حمزة مع إبداله الهمزة واواً وصلاً ووقفاً ، وقرأ نافع في رواية عنه : ( كفأ ) بكسر الكاف ، وفتح الفاء من غير مدّ . وقرأ سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس كذلك مع المد ، وأنشد قول النابغة :
لا تقذفني بركن لا كفاء له ... والكفء في لغة العرب النظير . يقول . هذا كفؤك أي : نظيرك . والاسم الكفاءة بالفتح .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والمحاملي في أماليه ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة عن بريد لا أعلمه إلاّ رفعه . قال : { الصمد } الذي لا جوف له ، ولا يصح رفع هذا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : { الصمد } الذي لا جوف له ، وفي لفظ : ليس له أحشاء . وأخرج ابن أبي عاصم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن المنذر عنه قال : { الصمد } الذي لا يطعم ، وهو المصمت . وقال : أو ما سمعت النائحة ، وهي تقول :
لقد بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وكان لا يطعم عند القتال ، وقد روي عنه أن الذي يصمد إليه في الحوائج ، وأنه أنشد البيت ، واستدلّ به على هذا المعنى ، وهو أظهر في المدح ، وأدخل في الشرف ، وليس لوصفه بأنه لا يطعم عند القتال كثير معنى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : { الصمد } السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغنيّ الذي قد كمل في غناه ، والجبار الذي قد كمل في جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغي إلاّ له ليس له كفو وليس كمثله شيء .
--------------------------------------------------------------------------------
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : { الصمد } هو السيد الذي قد انتهى سؤدده ، فلا شيء أسود منه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : { الصمد } الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء . وأخرج ابن جرير من طرق عنه في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } قال : ليس له كفو ولا مثل .
--------------------------------------------------------------------------------
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{ الفلق } الصبح ، يقال : هو أبين من فلق الصبح . وسمي فلقاً ، لأنه يفلق عنه الليل . وهو فعل بمعنى مفعول . قال الزجاج : لأن الليل ينفلق عنه الصبح ، ويكون بمعنى مفعول . يقال : هو أبين من فلق الصبح ، ومن فرق الصبح ، وهذا قول جمهور المفسرين ، ومنه قول ذي الرّمة :
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ... هادئة في أخريات الليل منتصب
وقول الآخر :
يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا ... أرعى النجوم لي أن نوّر الفلق
وقيل : هو سجن في جهنم . وقيل : هو اسم من أسماء جهنم . وقيل : شجرة في النار . وقيل : هو الجبال والصخور ، لأنها تفلق بالمياه ، أي : تشقق . وقيل : هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله . قال النحاس : يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق ، ومنه قول زهير :
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا
والراكس : بطن الوادي ، ومثله قول النابغة :
أتاني ودوني راكس فالضواجع ... وقيل : هو الرحم تنفلق بالحيوان . وقيل : هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى ، وكلّ شيء من نبات ، وغيره قاله الحسن ، والضحاك . قال القرطبي : هذا القول يشهد له الانشقاق ، فإن الفلق الشقّ ، فلقت الشيء فلقاً : شققته ، والتفليق مثله ، يقال فلقته ، فانفلق وتفلق ، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان ، وصبح ، وحبّ ، ونوى ، وماء فهو فلق ، قال الله سبحانه : { فَالِقُ الإصباح } [ الأنعام : 96 ] وقال : { فَالِقُ الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] . انتهى . والقول الأوّل أولى؛ لأن المعنى ، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق . وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ، ويخشاه . وقيل : طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح . كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح ، وقيل : غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير .
{ مِن شَرّ مَا خَلَقَ } متعلق ب { أعوذ } أي : من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته ، فيعمّ جميع الشرور . وقيل : هو إبليس وذرّيته . وقيل : جهنم ، ولا وجه لهذا التخصيص ، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية . وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه ، وتقويماً لباطله ، فقرءوا بتنوين : " شرّ " على أن : «ما» نافية . والمعنى : من شرّ لم يخلقه . ومنهم عمرو بن عبيد ، وعمرو بن عائذ . { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الغاسق الليل . والغسق الظلمة . يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم . قال الفراء : يقال غسق الليل ، وأغسق إذا أظلم ، ومنه قول قيس بن الرقيات :
--------------------------------------------------------------------------------
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهمّ والأرقا
وقال الزجاج : قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار ، والغاسق البارد ، والغسق البرد ، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوامّ من أماكنها ، وينبعث أهل الشرّ على العبث والفساد ، كذا قال ، وهو : قول بارد ، فإن أهل اللغة على خلافه ، وكذا جمهور المفسرين ووقوبه : دخول ظلامه ، ومنه قول الشاعر :
وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فأخمدوا
أي : دخل العذاب عليهم . ويقال وقبت الشمس : إذا غابت . وقيل : الغاسق الثريا . وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ، وبه قال ابن زيد . وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق . وقال الزهري : هو الشمس إذا غربت ، وكأنه لاحظ معنى الوقوب ، ولم يلاحظ معنى الغسوق . وقيل : هو القمر إذا خسف . وقيل : إذا غاب . وبهذا قال قتادة ، وغيره . واستدلوا بحديث أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى القمر لما طلع فقال : « يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب » قال الترمذي : بعد إخراجه حسن صحيح ، وهذا لا ينافي قول الجمهور؛ لأن القمر آية الليل ، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه ، وهكذا يقال في جواب من قال : إنه الثريا . قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر . وقيل الغاسق : الحية إذا لدغت . وقيل الغاسق : كل هاجم يضرّ كائناً ما كان ، من قولهم غسقت القرحة : إذا جرى صديدها . وقيل : الغاسق هو السائل ، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل ، ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر ، والتحرز من الشرور فيه أصعب ، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل . { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } النفاثات هنّ السواحر ، أي : ومن شر النفوس النفاثات ، أو النساء النفاثات ، والنفث النفخ ، كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر . وقيل : مع ريق . وقيل : بدون ريق ، والعقد جمع عقدة ، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها ، ومنه قول عنترة :
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يعقد فحقّ له العقود
وقول متمم بن نويرة :
نفث في الخيط شبيه الرقى ... من خشية الجنة والحاسد
قال أبو عبيدة : النفاثات هيّ : بنات لبيد الأعصم اليهودي ، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم . قرأ الجمهور : { النفاثات } جمع نفاثة على المبالغة . وقرأ يعقوب ، وعبد الرحمن بن ساباط ، وعيسى بن عمر : ( النافثات ) جمع نافثة . وقرأ الحسن : ( النفاثات ) بضم النون . وقرأ أبو الربيع : ( النفثات ) بدون ألف .
--------------------------------------------------------------------------------
{ وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } الحسد : تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود . ومعنى { إذا حسد } : إذا أظهر ما في نفسه من الحسد ، وعمل بمقتضاه ، وحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود . قال عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد ، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال :
قل للحسود إذا تنفس طعنة ... يا ظالماً وكأنه مظلوم
ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم ، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه ، ومزيد ضرّه ، وهو الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد ، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر .
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } فقال : « يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟ » قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : « بئر في جهنم » وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع . وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم » وأخرج ابن مردويه ، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق } فقال : « هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون ، وإن جهنم لتتعوّذ بالله منه » وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الفلق جبّ في جهنم » وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجباً ، والقول بها متعيناً .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الفلق سجن في جهنم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : الفلق الصبح . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : الفلق الخلق . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } وقال : النجم هو الغاسق ، وهو الثريا . وأخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع . وقد قدّمنا تأويل هذا ، وتأويل ما ورد أن الغاسق القمر .
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد »
--------------------------------------------------------------------------------
وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس : { وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال : الليل إذا أقبل . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } قال : الساحرات . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو ما خالط السحر من الرقي . وأخرج النسائي ، وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئًا وكل إليه » وأخرج ابن سعد ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقال : « ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟ » فقلت : بلى بأبي أنت وأمي ، قال : « بسم الله أرقيك ، والله يشفيك من كل داء فيك مِن شَرّ النفاثات فِى العقد ، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ » فرقى بها ثلاث مرّات . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال : نفس ابن آدم وعينه .
--------------------------------------------------------------------------------
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
وقرأ الجمهور : { قُلْ أَعُوذُ } بالهمزة . وقرىء بحذفها ، ونقل حركتها إلى اللام . وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس ، وقرأ الكسائي بالإمالة . ومعنى { ربّ الناس } : مالك أمرهم ، ومصلح أحوالهم ، وإنما قال { ربّ الناس } مع أنه ربّ جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ، ولكون الاستعاذة وقعت من شرّ ما يوسوس في صدورهم . وقوله : { مَلِكِ الناس } عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم ، بل بطريق الملك الكامل ، والسلطان القاهر . { إله الناس } هو أيضاً عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته ، وملكه قد انضمّ إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام ، وأيضاً الربّ قد يكون ملكاً ، وقد لا يكون ملكاً ، كما يقال ربّ الدار ، وربّ المتاع ، ومنه قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] فبين أنه ملك الناس . ثم الملك قد يكون إلها ، وقد لا يكون ، فبيّن أنه إله؛ لأن اسم الإله خاصّ به لا يشاركه فيه أحد ، وأيضاً بدأ باسم الربّ ، وهو اسم لمن قام بتدبيره ، وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك ، فذكر أنه ملك الناس . ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وأنه عبد مخلوق ، وأن خالقه إله معبود بيّن سبحانه أنه إله الناس ، وكرّر لفظ الناس في الثلاثة المواضع؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار؛ ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس .
{ مِن شَرّ الوسواس } قال الفرّاء : هو : بفتح الواو بمعنى الاسم ، أي : الموسوس ، وبكسرها المصدر ، أي : الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة . وقيل : هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة ، والوسوسة : هي حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ، أي : حدّثته حديثاً ، وأصلها الصوت الخفيّ . ومنه قيل : لأصوات الحلي وسواس ، ومنه قول الأعشى :
تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت ... قال الزجاج : الوسواس هو الشيطان ، أي : ذي الوسواس . ويقال إن الوسواس ابن لإبليس ، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } [ الأعراف : 20 ] ومعنى { الخناس } : كثير الخنس ، وهو التأخر ، يقال خنس يخنس : إذا تأخر ، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فإذا دخسوا بالشرّ فاعف تكرّما ... وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل
قال مجاهد : إذا ذكر الله خنس وانقبض . وإذا لم يذكر انبسط على القلب . ووصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } [ التكوير : 15 ] يعني : النجوم لاختفائها بعد ظهورها ، كما تقدّم . وقيل : الخناس اسم لابن إبليس ، كما تقدّم في الوسواس . { الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس } الموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً للوسواس ، ويجوز أن يكون منصوباً على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على تقدير مبتدأ .
--------------------------------------------------------------------------------
وقد تقدّم معنى الوسوسة . قال قتادة : إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس . قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك ، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفيّ يصل إلى القلب من غير سماع صوت .
ثم بيّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان : جني ، وإنسي ، فقال : { مِنَ الجنة والناس } أما شيطان الجنّ ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس ، فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته ، كما قال سبحانه : { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ويجوز أن يكون متعلقاً ب { يوسوس } أي : يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ، ومن جهة الناس ، ويجوز أن يكون بياناً للناس . قال الرازي ، وقال قوم : من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله : { فِى صُدُورِ الناس } لأن القدر المشترك بين الجنّ والإنس يسمى إنساناً ، والإنسان أيضاً يسمى إنساناً ، فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس ، والنوع بالاشتراك . والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجنّ ما روي أنه جاء نفر من الجنّ . فقيل لهم : من أنتم؟ قالوا : ناس من الجنّ . وأيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } [ الجن : 6 ] . وقيل : يجوز أن يكون المراد أعوذ بربّ الناس من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس ، ومن الجنة والناس ، كأنه استعاذ ربّه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربّه من جميع الجنة ، والناس . وقيل : المراد بالناس الناسي ، وسقطت الياء كسقوطها في قوله : { يَوْمَ يَدْعُو الداع } [ القمر : 6 ] ثم بيّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان ، وأحسن من هذا أن يكون قوله : { والناس } معطوفاً على الوسواس ، أي : من شرّ الوسواس ، ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس . قال الحسن : أما شيطان الجنّ ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس ، فيأتي علانية . وقال قتادة : إن من الجنّ شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس . وقيل : إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ ، كما يوسوس في صدور الإنس ، وواحد الجنة جنيّ كما أن واحد الإنس إنسيّ . والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال ، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلاّ بالمعنى الذي قدّمنا ، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة .
--------------------------------------------------------------------------------
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب ، فيوسوس إليه ، فإن ذكر الله خنس ، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخنّاس . وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان ، وأبو يعلى ، وابن شاهين ، والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسيه التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخنّاس » وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : الشيطان جاث على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، والبيهقي عنه قال : ما من مولود يولد إلاّ على قلبه الوسواس ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، فذلك قوله : { الوسواس الخناس } . وقد ورد في معنى هذا غيره ، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان ، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة ، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة .